3/05/2008

رصيف مكدس بالأسئلة

رأيتك بالأمس تقرأ.. فقررت أن أكتب لك
... ... ...
(1) في صباح رحل منذ سنة وبضعة أشهر، وبينما أنا خارجة من محطة المترو أدفع بيوم جديد أمامي أراه متكوماً تحت بطانية غامقة اللون متهدلة لا يظهر منه سوى قدم - ربما سمراء - شديدة الاتساخ..
(2) هل تعرف أنني ومنذ ذلك اليوم، أشعر بغصة في قلبي كلما عبرت ذلك الرصيف.
(3) ها أنت تجلس فوق البطانية تستقبل شمس صباح جديد وبين يديك كوبا من الشاي.. أصابعك ذات الأظافر الطويلة والمتشققة والمتسخة لفتت نظري بشدة، ملامح الوجه المستكين والعين المنكسرة لا تنقصها وسامة، إنما تنقصها حقًا صابونة جيدة الرغوة وماء نقي ليكشف الدرجة الحقيقية للون البشرة الشابة. أراهن نفسي على أن عمرك لا يزيد على إثنين وأربعين عاما.. ذو ذقن طويلة بطبيعة الحال، ولكنها ليست طويلة جدا... بل تكاد تكون مهذبه.
أسأل نفسي.. قبل أن أمد يدي في جيبي وأخرج ما فيه النصيب، لماذا يسكن رجل في مثل عمرك الرصيف؟ ما قصتك؟
تلتقي عيني بعينيك فيفاجئني خجل ما يجعلني أمر ولا أخرج يدي من جيبي. أنا آسفة.
(4) مساءاً - وستأتي مساءات كثيرة على نفس الحال- أمر عليك في طريقي إلى محطة المترو، فأجدك مستنداً بظهرك إلى الحائط، أو تمسك بقطعة خبز تغمرها في الشاي ثم تقذف بها إلى فمك، أو تقف على حافة الرصيف تتابع بعينيك حركة المرور والسيارات والناس.. لا تمد يدك تطلب شيئا.. أبداً.
أغلب الوقت أمر عليك فأجدك ملتفًا حول نفسك وتنظر إلى الأرض. تثير بداخلي كثيراً من الألم. درجة ألم واحدة لم تتغير رغم مرور الأيام والشهور، هي "شفقة" بك وبكل ساكني الأرصفة.. وهو "إحساس بالذنب" أني لا أملك لك من الأمر شيء. عندما يستبد بي التفكير، اعد نفسي بأنني إذا قدرني الله يوما سوف أبني بيتا كبيرا وأجمع فيه كل المشردين.
(5) هل تعرف، أن قرصة القلب التي تصيبني صباحاً عندما أراك وأتذكر وجودك في الدنيا، تذكرني بالله.. احمده واشكره على ما وهبني من أسرة وحياة، وأتمنى عليه أن يرزقكم جميعا بيوتاً ومهناً وأُسر.
بكيت مرة عندما أدركت تلك النعمة الكبير.. أحياناً يفوت عليك حصر نعماً تظنها حقك سلفًا أو مقررة إجبارياً بحكم وجودك في الحياةـ حتى تقابل من حرم منها. هل تمتعت يوماً بالجدران الأربعة؟ كم هي نعمة أن تأتي آخر الليل تداريك آربعة جدران.. هذا ستر.
أتذكر. أنك دعوت لي يوما بالستر.. قلت لي "الله يسترك" أمنت عليك من قلبي، فأنا أخاف كثيرا من تقلب الزمن ومكر الأيام. وهل أتى بك إلى الرصيف إلا شيئا من هذا القبيل.
قل لي صحيح، ما هي قصتك؟ أنت لست عجوزا طال بك العمر وامتد مثل جاراتك من الشحاذات على نفس الرصيف اللاتي ربما قضين عمرا بطوله وعرضه ولكن العجز والمرض اتى بهم إلى هنا كقصة تقليدية عن امرأة فقيرة مقطوعة من شجرة. ولست طفلا، هرب من أهله أو يسرحه أهله أو يدور في فلك عصابة مكونة من أطفال شوارع يبيعون المناديل وينامون ليلًا تحت الكباري.. ماذا فعل بك الزمن؟
(6) ذات صباح، لا أجدك نائماً ولا جالساً ولا واقفًا، لا أجدك. ولا أُبطىء من خطواتي المتسارعة كي ألحق بأخر معاد للحضور كالعادة ولكني أطلق عيني في المحيط المتاح لأبحث عنك.
(7) كان الصيف الماضي شديد الحرارة. كل صيف هو شديد الحرارة. لا أعرف حقا كيف لا تستحم، كيف تطيق الجلوس ـ أو الوقوف أو أياً كان الوضع بالساعات في النهار تحت سقف دنيا شديدة الحرارة، وملابسك التي لا تتغير، وبشرتك التي حرمت الإستحمام.
يا صديقي أنا لا ألوم عليك. أنا فقط أتساءل كيف يعيش إنسان بلا استحمام. كم هي شديدة تلك الظروف التي حرمتك. كان الله في عونك.
(8) اممم..ربما كنت تحب امرأة ماتت فانطلقت بعدها في براري القاهرة والجيزة واستقر بك المقام على ناصية شارع، أو كنت متزوجاً من سيدة نكدية فكرهت بسببها حياة البيوت أو ربما تعاني مرضاً عقليا افقدك السيطرة على تصرفاتك والرغبة في الحياة في ستر، لكنى لا ألاحظ عليك أي اضطراب.. أنت لا تهزي بكلمات غير مفهومة، ولا تكرر كلمة واحدة ألف مرة دون تعب أو إرهاق، ولا تقف محملقا في الناس أو تؤدي رقصة حلزونية لا تتعب من تكراراها طول اليوم ولا تعد حتى عشرة ثم تبدأ موجة سباب في البشر والناس والحكومة والرئيس. أنت مهذب جداً، حتى عينيك لا تخترقان المارة عندما تقف في شرفة رصيفك لتستمتع بالنسمات الطرية وتشاهد عرضا حيا لفيلم من نوع "اشارة مرور"
(9) في طريقي إلى المترو، أراك لأول مرة على رصيف آخر غير الرصيف، تجلس بجانب مجموعة الصحف والمجلات التي أراها يوميا على هذا الرصيف. هل ترك صاحب الصحف والمجلات البضاعة لك فترتزق منها وتصرف على نفسك؟ أنه خبر سعيد جداً. أنا أسعد إنسانة في هذا الشارع اليوم. سأشترى منك جريدتي اليومية رغم أن معي النسخة التي اشتريتها صباحا. يجب أن أُشجعك لكي تستمر أيها الطيب.
لكني رأيتك في اليوم التالي على رصيفك، والرجل الآخر يأخذ مكانه بين صحفه وجرائده.
(10) اعترف أنني وقعت في مأزق شديد عندما رأيتك ليلة رؤية هلال رمضان. لم استطع أن أتخلص من هذيان فكرة واحدة، هل تصوم رمضان؟ هل تصلي طيب؟ هل تعرف أن هناك "الله"؟ هل علي إذن أن أعرفك أن هناك "الله"؟ كيف أفعل هذا؟ وهل هذا أوجب أم اطعامك؟ هل ستدرك وجود الله وأنت خاوي البطن جائع ومشرد؟ كان بودي أن تكون لدي الشجاعة لأحدثك، وانتهز الفرصة لأعرفك به. لكني اطمئن نفسي أنك أن كنت لا تعرف "الله" فهو حتما يعرفك.
(11) عندما أكون منزعجة .. أرغب بشدة في ألا أراك . عندما يكون قلبي موجوع فإنه لا يحتمل أي غصات صباحية أخرى.
(12) هل الصيف أفضل لك أم الشتاء؟
(13) نائم أنت مضموم على نفسك، معقوفا كعلامة استفهام.. تتردد نقطتها في عقلي.. هل تمرض مثلنا؟ لو أصابك برد مثلًا، ماذا تفعل؟ أرجو ألا يصيبك المرض.
(14) يوم شديد البرودة، قارص حتى الوجع.. وجع لونه أزرق بلون الدم المتوقف في الأصابع. استدفىء بطبقات البطاطين واختبىء تحتها استعداداً لنومة شيقة. تباغتني صورتك فجأة عندما اسمع صوت المطر بالخارج. أنت في بلدك الآخر تنام على رصيف مكشوف للمطر والبرد. اخجل من نفسي جداً أكاد انفض عني الأغطية شفقة أو عقابًا، لا أعرف. لكنى لا أقوى على أية حال، استسلم للنوم فأحلم بالبيت الكبير الذي ابنيه لكل المشردين والمحرومين من الستر. سأوفر للعجائز منهم سرائر نظيفة وأدوية لأمراضهم وحديقة مشمسة، فيستمتعون بالأيام الباقية وينتظرون الموت بلا مشقة. وسأوفر للصغار منهم تعليما وتربية، وأنت في هذا الحلم مديراً نظيفًا للبيت، ترتدي بذلة وتبتسم في وجوه النزلاء.
(15) عادة، لا يشكل فبراير لي أي مشكلة، وليس بيني وبينه أي حزازات ولكن لأ اعرف لماذا يزداد قتامة هذا العام. الأشياء التي تحدث والتي لا تحدث، عيني التي تواجه نهارات كثيفة الغيوم بغير شمس، تدخل على قلبي كآبة لا تحتمل، التعلق بما وبمن لا يجب أن أتعلق، لا داعي للتفسير، أنا فقط أريد أن أجلس بجانبك واحكي لك عن اكتئابي، بالطبع لست وحدك الذي تعاني الهموم.. لذلك لا يجب أن تستخدم ميزانا ثم تنظر لي قائلا "أن أسباب اكتئابي واهية" ليس من حقك أن تفعل هذا.
هل سيأتي اليوم الذي أُحدثك فيه أصلًا؟
(16) لم أرك اليوم. يزداد اكتئابي
(17) مر أسبوع منذ آخر مرة رأيتك. ولم ألحظ قبل اليوم أن منامتك أيضا غير موجودة. فأر يلعب الآن.
تصور.. أنت سبب حقيقي لاكتئابي. كيف احكي لأحد مثل هذا السبب؟
أين أنت يا تري؟ اختفيت فجأة بغير إنذار، هل أخذتك دورية شرطة؟ إلى أين ستأخذك يا مسكين؟ هل عادت إليك ذاكرتك المفقودة فجأة وقررت البحث عن أهلك والعودة إليهم؟ هل مت فجأة واخذوك ليدفونك في مقابر الصدقة؟ أم قررت ببساطة أن تغير عتبة.. رصيف أقصد
أيعني ذلك أني لن أراك ثانية؟ لن أعرف أخبارك واطمئن أنك حي ترزق.. لن أعرف لك قبرا حتى. على كل حال أتمنى لك أن تكون بخير أينما كنت.
ومع ذلك يأكلني الفضول.
(18) عندما غادرت من العمل هذا المساء. وبعد أن أقنعت نفسي بضرورة القيام والعودة للبيت، فالوقت تأخر بالفعل، تمشيت حتى المترو "كما يمشي الوجي الوحل".. تتكاثف في وجهى كل احباطاتي السابقة والحالية والمستقبلية.. تفر دمعة مني في هذا الشارع المزدحم المظلم الذي لا يري فيه أحد وجه آخر.
فلما رأيتك تقف استهونت الكلاكيع التي تضخمت في عقلي.. خجلت من مشكلاتي المرفهة مقارنة برصيفك ومنامتك القذرة. أنت عدت مرة أخرى لكي تعطيني درسا في التحمل والصبر. ومع ذلك لا يجب أن يعطيك هذا شكاً في مدى عمق وأهمية مشكلاتي، أنا فقط أقول لك أنها مقارنة بحالك لا تعد مشكلات. لكنها مشكلات.. ليست مشكلات بمعنى مشكلات.. هي مشكلات ليس في يدي تغييرها أو حلها، هي أمرا واقعا بالمعنى.. حسناً، أنا يجب أن أتخلص من التفكير فيها إذا كان الحل ليس عندي فعلا. صح؟
فقط عدني أنك لن تختفي مرة أخرى، إلا إذا انتقلت لحال أفضل مثلا وأكون على علم بذلك.. حتى لا تتكدس أسئلة على هذا الرصيف، وتتصاعد من جمجمتي رائحة شواء.
تصبح على خير يا (اسمك إيه).
(19) رأيتك اليوم تمسك بجريدة حكومية، تتطلع عليها وأنت واقف مرتديا جلبابك المتسخ وجاكت البذلة المهلهل وذلك الحذاء البني الشمواه، أنت تعرف القراءة إذا.. ليست تلك مسكة جريدة لمجرد مشاهدة صور، إنها مسكة محترفين.
............
ولأن أسئلتي لا تتوقف كلما رأيتك.. ولأني رأيتك بالأمس تقرأ جريدة، قررت أن أكتب عنك ولك. بالطبع لن أجرؤ على طبع الكلام واعطاءه لك، بدلا من ذلك، سوف أضعه في مدونتي. نعم ستسكن مدونتي من اليوم، تجاور الحيتان الزرقاء والكواكب المشكوك في أمرها..

No comments:

Post a Comment