10/15/2009

فيما وراء المتاريس


"انبثق الدم حول أرسغنا. أبت يدي اليمنى أن تنقاد للخلف، فقيدوها بالقوة. سمعت طقطقة عظامي فاقشعر بدني. شحنونا فى العربات. مررنا بغزة. منعونا من النظر إليها. أطلقوا علينا النار في العربة فسقط عدد من القتلى والجرحى. رغم ذلك نظرنا إلى غزة. لا أثر لإنسان في شارعها الرئيسي"


أعترف أن العلامة الحمراء المعنونة "نصوص مميزة" والتي تضعها دار الشروق على بعض الكتب التي تعيد طبعها، استحوذت على اهتمامي وثقتي.. والحقيقة أن اختيارهم لرواية فؤاد حجازي "الأسرى يقيمون المتاريس" كنص مميز، هو اختيار في محله تماما. فعلى المستوى الأدبي، هذه رواية جميلة..

"كان الغموض يضطرب بنا في متاهاته. وآلاف الأوهام والاحتمالات تعصف بنا. استبد بنا الظمأ فاحتبست أصواتنا وعجزنا عن الكلام. تحسسنا بألسنتنا جدران العربة وقد تجمعت عليها قطرات دقيقة من الماء نتجت عن أنفاسنا. كان السعيد من يجاور شنبراً او مسماراً. يجد عليه قطرات دقيقة من الماء أكثر. بدأت أظافرنا تعمل في شقوق الخشب بحثاُ عن متنفس لهواء نقي..."

هي رواية مهلكة أيضاً.. دائما ما أقول لمن أنصحه بقراءتها، أن "يتحمل أول تلاتين اربعين صفحة"، فهم على جمالهم الأدبي وتدفقهم السردي الرائع، يحملون من الفظائع والمواقف المؤلمة لمجموعة أسرى مصريين وقعوا في يد العدو الإسرائيلي، ما يرهق القارىء نفسياً..

"كانوا يريدون منا أن ندلي في هذه النماذج بأسمائنا وأسماء وحداتنا العسكرية أو أرقامها. وعنوان منزل كل منا. استجبنا مع تغيير بسيط في أرقام الوحدات العسكرية. وتغيير آخر في المهن العسكرية. مر الوقت ولم يكتشوف مدفعياً واحدا أو رجل مدرعات واحدا.... تملكهم الغضب وأخذوا يتكلمون كثيراً فيما بينهم بالعبرية. رجانا أحدهم بالعربية أن ندلي بالبيانات الصحيحة... عادوا لعملهم فلم يوفقوا لجديد. لم يملك ضابطهم - نفسه - فصاح: كلكم طباخون.. كلكم مراسلة وجناينية.. وين جيش ناصر..."

فاصبر وواصل القراءة.. حتى تعبر معهم مرحلة العذاب، وتبدأ في التعرف على ملامح معسكر الأسرى وتستطعم معهم وحشة وغربة وقبح المكان، وتتألم جسديا ونفسيا كما يتألمون.. ثم تبدأ في التأقلم مع الواقع، والتفاعل معه، ليس من باب الإستسلام، ولكن من باب قدرة الإنسان العجيبة على الحياة رغم قسوة الظروف.. تلك الحياة التي من الممكن أن يكتشف معناها الحقيقي بين مجموعة من المهزومين عسكريا، من الأسرى الذين ينتظرون الموت بين لحظة وأخرى..

"تسلل المساء وبدا الاسرائيليون في حيرة من أمرهم. فاجأناهم بقذائف الحجارة. جرى الحراس مذعورين. اغلق الطريق تماما بين معسكرنا ومعسكر 6 المواجه لنا. تجمعوا في بداية الطريق ونهايته. سلطوا الكشافات علينا. وجهنا القذائف الحجرية فحطمناها. جُرح أحدهم فحملوه بسرعة على نقالة. جرب قائدهم الدخول إلينا في ثلة من الحراس لتهدئتنا. سرعان ما واجهناهم بالحجارة. عادوا بسرعة. أصدر القائد أمره إطلاق الرشاشات. انبطحنا أرضا داخل العنابر والرصاص المنهمر كالمطر يتراشق حولنا..."

لن أتطرق لبشاعة المعاملة الإسرائيلية للأسرى، سواء من المصريين أو الفلسطينيين أو غيرهم، كما أن مشاعر العسكري أو المواطن المصري بعد سبعة وستين وتمسكه بالإيمان ببلده لأمر غني عن الوصف.. لكنني مع تلك الرواية أتوقف عند الإنسان.. عند مجموعة من البشر، بصرف النظر عن جنسيتهم او ديانتهم او انتماءاتهم، يتعرضون لظروف مثل ظروف الأسر.. يمرون بمحاذاة الموت كل يوم ويتبدى لهم كلما راقبوا خط الحصار الأبيض، ورغم كل ما حدث فإن حياة ما تولد، ومجتمعا ما ينشأ.. فتسمع الضحكات في جنبات الأسر، وتشاهد المقالب تصنع، وتشاركهم الضحك على الجنود الإسرائيلين، وتتحمس معهم في مظاهرة يندفعون فيها غضبا لأسير يسقط قتيلا بلا داعي، وتلعب معهم في دوري كرة القدم وتكتب معهم في مجلات الحائط وتتبع الأخبار وتستمتع بالمسرحيات وليالي السمر، ويعلو صوتك بالغناء وتستسلم للبرد وترقص تحت الشمس وتبكي من الانتظار وتتمنى العودة.. بل وتخطط للهروب..

"جرينا جميعاً، ولم يزل أثر النوم في أجفاننا. رأينا معسكر المدنيين في حالة نشاط غير عادي. ألقوا إلينا ببطاطينهم عبر الأسلاك. وببقايا الهدايا التي معهم. أوقفوهم في صفوف أمام البوابة، تمهيداً للرحيل..."

لتقرأ الرواية إذن كأسير على استعداد أن يتعلم هجائية الحياة من جديد..

4 comments:

  1. مازال الإنسان وتفاعله مع الحياة من الأشياء التي تدهشني سواء من جانب القاهر أو المقهور بصفة عامة ونحن المصريين بصفة خاصة؛ لكن النفس البشرية تتوق دائما للحياة حتى في أحلك اللحظات ظلاما وإلا فما معني العيش إذا؟

    رحم الله جميع الشهداء وشكرا على لفت إنتباهنا للرواية. أرجو أيضا لـ "الشروق" أن تستمر في هذا الأمر (نصوص مميزة) وهذا يعني أن القائمين عليها فريق يقرأ

    شوية نحوى معلهش :)

    ReplyDelete
  2. ياه يازيزى رجعتينى لايام مرعليها42 سنه ولاكنها محفورة فى ذاكتى رغم ان ذاكرتى اصبحت شبه الزهيمر الان رجعتينى لسنة 67 وارفض ان اقول عليها نكسه لان بعدها جاءت حرب الاستنزاف التى اثبتت للعالم قوة المصريين واصرارهم على التحدى واثبات الذات وبعدها جاء انتصار اكتوبر 73 الذى فاق كل التوقعات العالميةورغم هذالن تنسى الشروق شهداءنا الذين قتلتهم الايدى الاسرائلية بدم بارد وشكرا كثيرا للشروق لانها بكتابها جعلتك ومن فى سنك يتكلمون فى هذا الموضوع وكانهم عاصروه فعلا وشكرا للك يازيزى انك تكلمتى عن كتاب الشروق بهذا الاحاس الجميل ...
    laila

    ReplyDelete
  3. من الصعب جداً مهما بلغ الوصف، أن نصل لمدى المعاناة التي مني بها الأسير في غياهب الإسرائلين بالذات، فهذا في حد ذاته له أثر كبير في النفس قد لا يزول إلا إما بالإستشهاد في سبيل الله، أو الموت البطيء

    شكرا أختي في الله على هذا التوضيح للرواية وجعله الله في ميزان حسناتك، ورحم شهداء الأمة الإسلامية العربية

    ReplyDelete
  4. المشكلة الحقيقية هي هوان تلك المعاناة على المعاصرين، فلا توجد مطالب حقيقية فعالة بالحساب او حتى اقامة الحق. و بالمناسبة سبقت هذه المأساة مآسي أخرى و تلتها أيضا.

    على سبيل المثال، الألغام في الصحراء الغربية هي مأساة أصابت المصريين قبل 67 و حتى الآن و لا يوجد أي مطالب فعالة بتعويض أو رفع الضرر. إنه تراخي من قيادة هذا الوطن يظهرها على أنها قيادة وافدة أو أنها تنفذ عقد عمل مؤقت.

    ReplyDelete